فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَن يُسْلمْ وَجْهَهُ إلَى الله} أي يفوّض إليه أمره، ويخلص له عبادته ويقبل عليه بكليته {وَهُوَ مُحْسنٌ} في أعماله؛ لأن العبادة من غير إحسان لها ولا معرفة بما يحتاج إليه فيها، لا تقع بالموقع الذي تقع به عبادة المحسنين.
وقد صح عن الصادق المصدوق لما سأله جبريل عن الإحسان أنه قال له: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» {فَقَد استمسك بالعروة الوثقى} أي اعتصم بالعهد الأوثق وتعلق به، وهو تمثيل لحال من أسلم وجهه إلى الله بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل، فتمسك بأوثق عرى حبل متدلّ منه {وإلى الله عاقبة الأمور} أي مصيرها إليه لا إلى غيره.
وقرأ عليّ بن أبي طالب والسلمي وعبد الله بن مسلم بن يسار: «ومن يسلم» بالتشديد، قال النحاس: والتخفيف في هذا أعرف كما قال عزّ وجلّ: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهىَ للَّه} [آل عمران: 20] {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} أي لا تحزن لذلك، فإن كفره لا يضرك، بيّن سبحانه حال الكافرين بعد فراغه من بيان حال المؤمنين، ثم توعدهم بقوله: {إلَيْنَا مَرْجعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بمَا عَملُوا} أي نخبرهم بقبائح أعمالهم، ونجازيهم عليها {إنَّ الله عَليمٌ بذَات الصدور} أي بما تسرّه صدورهم لا تخفى عليه من ذلك خافية فالسرّ عنده كالعلانية.
{نُمَتّعُهُمْ قَليلًا} أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها.
فإن النعيم الزائل هو أقل قليل بالنسبة إلى النعيم الدائم.
وانتصاب {قليلًا} على أنه صفة لمصدر محذوف، أي تمتيعًا قليلًا: {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَليظٍ} أي نلجئهم إلى عذاب النار.
فإنه لا أثقل منه على من وقع فيه وأصيب به، فلهذا استعير له الغلظ: {وَلَئن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} أي يعترفون بالله خالق ذلك لوضوح الأمر فيه عندهم.
وهذا اعتراف منهم بما يدل على التوحيد وبطلان الشرك، ولهذا قال: {قُل الحمد للَّه} أي قل يا محمد: الحمد لله على اعترافكم، فكيف تعبدون غيره، وتجعلونه شريكًا له؟ أو المعنى: فقل: الحمد لله على ما هدانا له من دينه، ولا حمد لغيره، ثم أضرب عن ذلك فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا ينظرون ولا يتدبرون حتى يعلموا أن خالق هذه الأشياء هو الذي تجب له العبادة دون غيره.
{للَّه مَا في السموات والأرض} ملكًا، وخلقًا فلا يستحق العبادة غيره {إنَّ الله هُوَ الغني} عن غيره {الحميد} أي المستحق للحمد أو المحمود من عباده بلسان المقال أو بلسان الحال.
ثم لما ذكر سبحانه أن له ما في السماوات والأرض أتبعه بما يدلّ على أن له وراء ذلك ما لا يحيط به عدد، ولا يحصر بحدّ فقال: {وَلَوْ أَنَّمَا في الأرض من شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} أي لو أن جميع ما في الأرض من الشجر أقلام.
ووحد الشجرة لما تقرّر في علم المعاني: أن استغراق المفرد أشمل، فكأنه قال: كل شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا وقد بريت أقلامًا، وجمع الأقلام لقصد التكثير، أي لو أن يعدّ كل شجرة من الشجر أقلامًا.
قال أبو حيان: وهو من وقوع المفرد موقع الجمع والنكرة موقع المعرفة كقوله: {مَا نَنسَخْ منْ ءَايَةٍ} [البقرة: 106]، ثم قال سبحانه: {والبحر يَمُدُّهُ من بَعْده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي يمدّه من بعد نفاده سبعة أبحر.
قرأ الجمهور: {والبحر} بالرفع على أنه مبتدأ، و{يمدّه} خبره، والجملة في محل الحال، أي والحال أن البحر المحيط مع سعته يمدّه السبعة الأبحر مدًّا لا ينقطع، كذا قال سيبويه.
وقال المبرد: إن البحر مرتفع بفعل مقدّر تقديره: ولو ثبت البحر حال كونه تمدّه من بعده سبعة أبحر.
وقيل: هو مرتفع بالعطف على أن وما في حيزها.
وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: {والبحر} بالنصب عطفًا على اسم أن، أو بفعل مضمر يفسره {يمدّه}.
وقرأ ابن هرمز والحسن: {يمدّه} بضم حرف المضارعة، وكسر الميم، من أمدّ.
وقرأ جعفر بن محمد: {والبحر مداده} وجواب لو: {مَّا نَفدَتْ كلمات الله} أي كلماته التي هي عبارة عن معلوماته.
قال أبو عليّ الفارسي: المراد بالكلمات والله أعلم: ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود، ووافقه القفال فقال: المعنى: أن الأشجار لو كانت أقلامًا والبحار مدادًا، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب.
قال القشيري: ردّ القفال معنى الكلمات إلى المقدورات.
وحمل الآية على الكلام القديم أولى.
قال النحاس: قد تبين أن الكلمات هاهنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء؛ لأنه جلّ وعلا علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السماوات والأرض من شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذرّ، وعلم الأجناس كلها، وما فيها من شعرة وعضو وما في الشجرة من ورقة، وما فيها من ضروب الخلق.
وقيل: إن قريشًا قالت: ما أكثر كلام محمد، فنزلت: قاله السديّ، وقيل: إنها لما نزلت {وَمَا أُوتيتُم مّن العلم إلاَّ قَليلًا} [الإسراء: 85] في اليهود، قالوا: كيف، وقد أوتينا التوراة فيها كلام الله، وأحكامه، فنزلت.
قال أبو عبيدة: المراد بالبحر هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما الماء المالح، فلا ينبت الأقلام.
قلت: ما أسقط هذا الكلام، وأقلّ جدواه {أَنَّ الله عَزيزٌ حَكيمٌ} أي غالب لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن حكمته وعلمه فرد من أفراد مخلوقاته.
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} أي إلا كخلق نفس واحدة، وبعثها.
قال النحاس: كذا قدّره النحويون كخلق نفس مثل قوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82].
قال الزجاج: أي قدرة الله على بعث الخلق كلهم، وعلى خلقهم كقدرته على خلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة {إنَّ الله سَميعٌ} لكل ما يسمع {بَصيرٌ} بكل ما يبصر.
وقد أخرج البيهقي في الشعب عن عطاء قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} الآية، قال: هذه من كنوز علمي سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أما الظاهرة: فما سوّى من خلقك، وأما الباطنة: فما ستر من عورتك، ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم» وأخرج ابن مردويه، والبيهقي في الشعب، والديلمي وابن النجار عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظاهرة وَبَاطنَةً} فقال: «أما الظاهرة: فالإسلام، وما سوّى من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه، وأما الباطنة: فما ستر من مساوي عملك» وأخرج ابن مردويه عنه أيضًا قال: النعمة الظاهرة: الإسلام، والنعمة الباطنة: كل ما يستر عليكم من الذنوب والعيوب والحدود.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضًا: أنه قال في تفسير الآية هي: لا إله إلا الله.
وأخرج ابن أبي إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضًا في قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا في الأرض} الآية؟ أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمد، أرأيت قولك: {وَمَا أُوتيتُم مّن العلم إلاَّ قَليلًا} [الإسراء: 85] إيانا تريد أم قومك؟ فقال: «كُلا»، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء؟ فقال: «إنها في علم الله قليل»، وأنزل الله: {وَلَوْ أَنَّمَا في الأرض} الآية.
وأخرجه ابن مردويه عنه بأطول منه.
وأخرج ابن مردويه أيضًا عن ابن مسعود نحوه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَوْ أَنَّمَا في الْأَرْض منْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ}.
قوله: {والبحر} قرأ أبو عمرو بالنصب، والباقون بالرفع. فالنصبُ من وجهين، أحدُهما: العطفُ على اسم أنَّ. أي: ولو أنَّ البحرَ، و{يَمُدُّه} الخبرُ. والثاني: النصبُ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسّره {يمدُّه} والواوُ حينئذٍ للحال. والجملةُ حاليةٌ، ولم يُحْتَجْ إلى ضميرٍ رابطٍ بين الحال وصاحبها، للاستغناء عنه بالواو. والتقديرُ: ولو أنَّ الذي في الأرض حَالَ كون البحر ممدودًا بكذا.
وأمَّا الرفعُ فمنْ وجهين، أحدُهما: العطفُ على أنَّ وما في حَيّزها. وقد تقدَّم لك في أن الواقعة بعد لو مذهبان: مذهبُ سيبويه الرفعُ على الابتداء، ومذهبُ المبرد على الفاعلية بفعلٍ مقدر، وهما عائدان هنا. فعلى مذهب سيبويه يكون تقديرُ العطف: ولو البحر. إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: إنه لا يلي لو المبتدأُ اسمًا صريحًا إلاَّ في ضرورةٍ، كقوله:
لو بغير الماء حَلْقي شَرقٌ

وهذا القولُ يُؤَدّيْ إلى ذلك. ثم أجابَ بأنه يُغْتَفَرُ في المعطوف ما لا يُغْتَفَرُ في المعطوف عليه كقولهم: رُبَّ رجلٍ وأخيه يقولان ذلك. وعلى مذهب المبرد يكون تقديرُه: ولو ثَبَت البحرُ، وعلى التقديرَيْن يكون {يمدُّه} جملةً حالية من البحر.
والثاني: أنَّ {البحر} مبتدأٌ، و{يَمُدُّه} الخبر، والجملةُ حالية كما تقدَّم في جملة الاشتغال، والرابط الواو. وقد جَعَله الزمخشريُّ سؤالًا وجوابًا. وأنشد:
وقد أَغْتَديْ والطيرُ في وُكُناتها

و{منْ شجَرة} حالٌ: إمَّا من الموصول، أو من الضمير المستتر في الجارّ الواقع صلةً، و{أقلامٌ} خبرُ أنَّ. قال الشيخُ: وفيه دليلٌ على مَنْ يَقولُ- كالزمخشريّ ومَنْ يتعصَّب له من العجم- على أنَّ خبر أن الواقعة بعد لولا يكونُ اسمًا البتة لا جامدًا ولا مشتقًا، بل يتعيَّنُ أَنْ يكونَ فعلًا قال: وهو باطلٌ وأنشد:
ولو أنها عُصْفورَةٌ لَحَسبْتُها ** مُسَوَّمَةً تَدْعو عبيدًا وأَزْنَما

وقال:
ما أطيبَ العَيْشَ لو أنَّ الفتى حَجَرٌ ** تَنْبُو الحوادثُ عنه وهْو مَلْمُومُ

وقال:
ولو أنَّ حيًا فائتُ الموت فاته ** أخو الحرب فوقَ القارح العَدَوان

قال: وهو كثيرٌ في كلامهم. قلت: وقد تقدمَ أولَ هذا الموضوع أنَّ هذه الآيةَ ونحوَها تُبْطلُ ظاهرَ قول المتقدمين في لو أنها حرفُ امتناعٍ لامتناعٍ؛ إذ يَلْزَمُ محذورٌ عظيمٌ: وهو أنَّ ما بعدها إذا كان منفيًّا لفظًا فهو مُثْبَتٌ معنىً، وبالعكس. وقوله: {ما نَفدَتْ} منفيٌّ لفظًا، فلو كان مثبتًا معنىً فَسَدَ المعنى، فعليك بالالتفات إلى أول البقرة.
وقرأ عبد الله {وبَحْرٌ} بالتنكير وفيه وجهاه معرَّفًا. وسَوَّغ الابتداءَ بالنكرة وقوعُها بعد واو الحال، وهو معدودٌ من مسوّغات الابتداء بالنكرة. وأنشدوا:
سَرَيْنا ونجمٌ قد أضاء فَمُذْ بَدا ** مُحَيَّاك أخفى ضَوْءُه كلَّ شارق

وبهذا يظهرُ فسادُ قول مَنْ قال: إنَّ في هذه القراءة يتعيَّنُ القولُ بالعطف على أن، كأنه تَوَهَّم أنه ليس ثَمَّ مُسَوّغٌ.
وقرأ عبد الله وأُبَيٌّ {تَمُدُّه} بالتأنيث لأجل {سبعة}. والحسن وابن هرمز وابن مصرف {يُمدُّه} بالياء من تحتُ مضمومةً وكسر الميم منْ أمَدَّه. وقد تقدَّم اللغتان في آخر الأعراف وأوائل البقرة.
قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: لمَ قيل: {منْ شجرة} بالتوحيد؟ قلت: أُريد تفصيلُ الشجر وتَقَصّيها شجرةً شجرةً حتى لا يَبْقَى من جنس الشجر واحدةٌ إلاَّ قد بُريَتْ أقلامًا. قال الشيخ: وهو منْ وقوع المفرد موقعَ الجمع والنكرة موقعَ المعرفة، كقوله: {مَا نَنسَخْ منْ آيَةٍ} [البقرة: 106] قلت: وهذا يَذْهبُ بالمعنى الذي أبداه الزمخشري. وقال أيضًا: فإنْ قلت: الكلماتُ جمع قلةٍ، والموضعُ موضعُ تكثيرٍ، فهلا قيل: كَلم. قلت: معناه أنَّ كلماته لا تَفي بكَتْبَتها البحارُ، فكيف بكَلمه؟ قلت: يعني أنه من باب التثنية بطريق الأَوْلى. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ جَمْعَ السلامة متى عُرّف بأل غير العَهْدية أو أُضيف عَمَّ. قلت للناس خلافٌ في أل هل تعُمُّ أو لا؟ وقد يكونُ الزمخشريُّ ممَّنْ لا يَرَى العمومَ، ولم يَزَل الناسُ يسألونَ في بيت حَسَّان رضي الله عنه:
لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحى

ويقولون: كيف أتى بجمع القلَّة في مقام المدح؟ ولمَ لم يَقُلْ الجفان؟ وهو تقريرٌ لما قاله الزمخشريُّ واعترافٌ بأنَّ أل لا تؤثّر في جمع القلة تكثيرًا.
{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ وَاحدَةٍ إنَّ اللَّهَ سَميعٌ بَصيرٌ (28)}.
قوله: {إلاَّ كَنَفْسٍ} خبرُ {ما خَلْقُكم} والتقدير: إلاَّ كخَلْق نَفْسٍ واحدةٍ وبَعْثها. وهنا {إلى أَجَل} وفي الزمر {لأَجَلٍ} [الآية: 5] لأنَّ المعنيين لائقان بالحرفَيْن فلا عليك في أيّهما وقع. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَوْ أَنَّمَا في الْأَرْض منْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفدَتْ كَلمَاتُ اللَّه}.
لو أنَّ ما في الأرض من الأشجار أقلامٌ والبحارُ كانت مدادًا، وبمقدار ما يقابله تُنْفَقُ القراطيسُ، ويتكلَّفُ الكُتَّابُ حتى تتكسر الأقلامُ، وتفنى البحارُ، وتستوفي القراطيسُ، وتفنى أعمارُ الكُتَّاب. مانَفدَت معاني ما لنا مَعَكَ من الكلام، والذي نُسْمعُك فيما نخاطبك به لأنك معنا أبَدَ الأبد، والأبديُّ من الوصف لا يتناهى.
ويقال إن كان لك معكم كلامٌ كثير فما عندكم ينفذ وما عند الله باقٍ:
صحائفُ عندي للعتاب طَوَيْتُها ** ستُنْشَرُ يومًا والعتابُ يطول

{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ وَاحدَةٍ إنَّ اللَّهَ سَميعٌ بَصيرٌ (28)}.
إيجادُ القليل أو الكثير عليه وعنده سيَّان؛ فلا من الكثير مشقة وعُسْر، ولا من القليل راحةٌ ويُسْر، إنما أَمْرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له: {كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] يقوله بكلمته ولكنه يكوّنه بقدرته، لا بمزاولة جهد، ولا باستفراغ وُسْعٍ، ولا بدعاء خاطرٍ، ولا بطُرُوء غَرَضٍ.
{ذَلكَ بأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ منْ دُونه الْبَاطلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَليُّ الْكَبيرُ (30)}.
{اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} الكائنُ الموجودُ، مُحقُّ الحقّ، و{مَا يَدْعُونَ من دُونه الْبَاطلُ} من العَدَم ظَهَرَ ومعه جوازُ العَدَم. اهـ.

.تفسير الآيات (31- 32):

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْري في الْبَحْر بنعْمَت اللَّه ليُريَكُمْ منْ آيَاته إنَّ في ذَلكَ لَآيَاتٍ لكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإذَا غَشيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَل دَعَوُا اللَّهَ مُخْلصينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرّ فَمنْهُمْ مُقْتَصدٌ وَمَا يَجْحَدُ بآيَاتنَا إلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تضمنت الآية ثلاثة أشياء، أتبعها دليلها، فقال منبهًا على أن سيرنا في الفلك مثل سير النجوم في الفلك، وسير أعمارنا في فلك الأيام حتى يولجنا في بحر الموت مثل سير كل من الليل والنهار في فلك الشمس حتى يولجه في الآخر فيذهب حتى كأنه ما كان، ولولا تفرده بالحقية والعلو والكبر ما استقام ذلك، خاصًا بالخطاب أعلى الناس، تنبيهًا على أن هذه لكثرة الألف لها أعرض عن تأملها، فهو في الحقيقة حث على تدبرها، ويؤيده الإقبال على الكل عند تعليلها: {ألم تر أن الفلك} أي السفن كبارًا وصغارًا {تجري} أي بكم حاملة ما تعجزون عن نقل مثله في البر، وعبر بالظرفية إشارة إلى أنه ليس لها من ذاتها إلا الرسوب في الماء لكثافتها ولطافته فقال: {في البحر} أي على وجه الماء، وعبر عن الفعل بأثره لأنه أحب فقال: {بنعمت الله} أي برحمة الملك الأعلى المحيط علمًا وقدرة وإحسانه، مجددًا ذلك على مدى الزمان عليكم في تعليمكم صنعها حتى تهيأت لذلك على يدي أبيكم نوح العبد الشكور عليه السلام {ليريكم من آياته} أي عجائب قدرته ودلائله التي تدلكم على أنه الحق الذي أثبت بوجوب وجوده ما ترون من الأحمال الثقال على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها، وهي مساوية لغيرها في أن الكل من التراب، فما فاوت بينها إلا هو بتمام قدرته وفعله بالاختيار.